بحث تاريخ تطوير شخصية العلمية الإمام أحمد بن إدريس

تبلغنا ظلالة العصر بفاس إلى كاف التاريخ المنحوت منذ 1200 سنة، وسكينته تصاحفنا وتؤدينا إلى كشف تاريخ الجامعة التي  دارت فيه كقائد في تربية الروحية والفكرية في العالم الإسلامي.

وتطيب وتمهل خطواتنا حين نمشي في الزقاق الضيقة في البازار الذي يخدم مجموعة متنوعة من الأطباق والملابس وهدايا الذكريات، ولكن قصد سفرنا هناك أفضل من ذلك، وهو اتباع مسجد القرويين العظيم، وفضلا أن ذلك المسجد قد ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالتطور العلمي في تكوين شخصي كبار الطريقة المحمدية الإمام سيد أحمد بن إدريس وتلاميذه الإمام محمد بن علي السنوسي.

ربما يعتقد الكثيرون أن جامعة أكسفورد في إنجلترا هي أقدم الجامعة، لكن قد لاحظ التاريخ أن جامعة القرويين في فاس بالمغرب هي أقدم جامعة في العالم، وهذه الجامعة قد اعترفها اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة) وسجل غينيس العالمي اعترافا وثيقا في كونها أقدم مؤسسة تعليمية في العالم وما زالت تعمل حتى اليوم.

بدأ تأسيس الجامعة ببناء مسجد القرويين الذي شكّل في النهاية نظام الجامعة، هذه العادة تحدث في المؤسسات التعليمية القائمة على نظم التراثية، حيث يدور أن المسجد هو الأساس في ازدهار المنطقة وطاقاتها.

مسجد القرويين هو أكبر المساجد في شمال أفريقيا في زمان إنشائه 245 هجرية مقارنة 859 ميلادية على يد أميرة صالحة فاطمة بنت محمد الفهري، كان والده من العمال الناجحين من القيروان تونس الذي انتقل إلى فاس باتباع المهاجرين من مكان واحد ثم استقر في غرب مدينة فاس، نشأت فاطمة وأختها مريم من خلفية عائلية قوية بالدين وأسرة علمية.

بتراث أبيها  انفقت فاطمة الفهري كلها في بناء مسجد القرويين الذي كان مناسبًا لمجتمع القيروان لأداء العبادة وفي غيرها أيضا كان مركزًا للتعليم في ذلك الوقت.

وكما كان المساجد في الزمان الماضي كان مسجد القرويين صار مكانا لدراسة العلوم الدينية والاجتماعية التي تطور ومركزا يعلم فيه مختلف العلوم من المنقول والمعقول  يعني العلوم المببنية على الوحي والعقل.

وماعدا القرآن والفقه أيضا قد وقع هنا تدريس المنطق والطب والرياضيات والفلك والكيمياء والتاريخ في الماضي، وأصبح محور اهتمام العلماء وطلاب العلم العالم الإسلامي في ذلك الوقت بسبب تنوع التخصصات من العلوم ونوعية الدراسة المعروضة، وبسبب كثرة الطلب الهائل يضع القرويين بعض الشروط للطلاب الذين يرغبون في مواصلة دراستهم هناك، منها حفظ القرآن الكريم وإتقان جيد في اللغة العربية.

وصولنا إلى مسجد القرويين عندما كانت الشمس مشرقة نورها، ولاحظة حسن عمارته وجمال صورته تذكرنا بحديقة تسيّل سيول العلم والبركة للإمام القطب النفيس السيد أحمد بن إدريس الحسني المغربي.

وكان تاريخ حياة الإمام الأعظم أنه نشأ في ظل تعليم أخويه بعد وفاة والده، وقد حفظ القرآن آلعظيم وكثير من متون العلم وينال قسما كافيا للعلوم الأساسية.

بعد بلوغ سن العشرين انتقل إلى مدينة فاس ودخل جامعة القرويين، وسكن هناك للدراسة في البداية، ثم يدرس ويعلم هناك لمدة 30 سنة متواصلة. وفي خلال تعليمه في تلك المدة خرج لتعلم العلم من كبار المشايخ في أراضي فاس.

لا شيخ من الشيوخ الكاملين الذين يعيشون معه في زوانه إلا وهو يأخذ العلم منه موقعه عالٍ جداً في شرق الدولة الإسلامية حتى أن رفيضه من عدد من تلاميذه وزرياته يكافئون العلماء الكبار في  علوم القرآن والشريعة والحقيقة.

يذكر الإمام السيد أحمد الشريف في كتابه الفيوضة الربانية أن الإمام أحمد بن إدريس قد أخذ العلم في المغرب من المشايخ الطويلة أعمارهم، ذوي الأسرار العجيبة والمعجبة والعظمة المذهلة كالشيخ محمد التاودي بن سودة والشيخ عبد الكريم بن علي اليازغي والعلامة عبد القادر بن شكرون، والسيد عبد الوهاب التازي.

ثم هاجر إلى المشرق ووصل إلى مكة المكرمة، وهناك قد تربى وأنتج رجالا الذين يخدمون الإسلام بخدمة مخلصة ومفيدة، ثم خرج من مكة إلى صبيا اليمن بعد ترك الحرمين بالخدمات والآثار التي بقيت حتى يوم القيامة، وفي اليمن اجتمع المجتمع لمقابلته بأعداد كثيرة، وقام بدعوتهم إلى الله بالإخلاص و لأجل أن ينال رضاه.

وفي اشتغال ملاحظة أجواء القرويين قام آذان المغرب منكسرا له، كأن أرنامه تعطي لنا الدفاءة، لتهدءة رياح فاس الباردة، ووضوء بمياهه الباردة، فالحمد لله على اعطاء إيانا النعمة يعني نعمة السجود والصلاة لإظهار العبودية في المسجد الذي قد سجد عليه مئات بل آلاف من العلماء والأولياء من المشرق والمغرب.

وكأن البروفسور الدكتور عبد الوهاب التازي غريقا في بحر الزوق والشوق العميق، ربما تكون فكرتة منغمسة في بخييل البيئة التي تبني شخصية جده الإمام الأكبر سيد أحمد بن إدريس.

وبعد أداء صلاة المغرب يجلس السيد عبد الوهاب التازي في زاوية قريبة من عماد القرويين التي تندمج بصورة فريدة مذهلة، فنجلس عنده مثل الأطفال الصغار الذين كانوا يرجون اللقم المشبعة.

كان لم يكن بخيلا في تبليغ العلم والمعرفة العالية عند ذلك الشفق الجميل، و بلغ إلينا جواهر العلم المتعلق بتاريخ جهاد العلمية وكرامة آل بيت النبي لتمليئ صدورنا الفارغة من الحكمة و تبليل نفوسنا العطاش إلى العلم والعرفة.

ننغمس في تروية الجاهد العميق ويظهر لنا أن العالم الذي معنا في هذه الرحلة بشخص لا مزية له بل هو كامل مكمل، كيف لا!؟ وهو حفظه الله تعالى من ذريات الإمام أحمد بن إدريس.

عندما يحيط الظلام الجو نغادر مسجد القرويين تدريجياً  بكثيف جداً، ربما كان قد ربط قلوبنا بسلسلة لؤلؤ الروحية المعقدة بالقوة التي هي حازمة وصلبة.

الحمد لله الذي من علينا وقدر حببا هنا للسجود والتعبد إليه في هذه الحديقة الجميلة، وهو المكان الذي سجد فيه سيدنا أحمد بن إدريس وسيدنا محمد بن علي السنوسي لتقديم عبوديتهما الخالصة والمخلصة إلى الخالق

Leave a Reply